"إنه عرس الديمقراطية الأكبر"…ترددت هذه العبارة في كل المناسبات التي أعلن فيها عن القيام بإجراء أو أكثر من إجراءات ما يسمى بـ " عملية الانتقال الديمقراطي في مصر "، في الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، وفي انتخابات مجلسي الشعب والشورى ، وفي الإعلان عن البدء في إجراءات الانتخابات الرئاسية ، وحتى اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية التي سوف تقوم بكتابة الدستور .
ففي كل هذه المناسبات يتم توجيه الجهاز الإعلامي للدولة بكامله وتتحول تصريحات رموز السلطة وحلفائها بل وبعض معارضيها ناحية تمجيد العملية الديمقراطية التاريخية التي تشهدها مصر ، وتأثير ذلك مستقبلاً على حياة المصريين ، ومستوى معيشتهم وتقدمهم . إلا أنه بعد كل هذه التجارب يجب أن نتوقف قليلاً لنرى ما أسفرت عنه تلك الأعراس ، وهل حقاً حققت ما يسمى بـ (الديمقراطية) أو على الأقل وضعت برنامجاً علاجياً للمواجع الحقيقية التي يعانيها الناس والتي انتفضوا بسببها مراراً باذلين العرق والدم من أجل وطن يسوده العدل والحرية .
كانت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية أن انقسم الشارع المصري بين مؤيد لتلك التعديلات ، ومعارض لها ، وقد اختارت القوى الإسلامية ، بل وبعض المحسوبين على التيارين الليبرالى واليسارى التصويت بـ (نعم) لهذه التعديلات ، بزعم أن ذلك سوف ينهى حكم العسكر في أسرع وقت ، وهو ما أدى إلى تحويل الإرادة الثورية من ناحية تطهير المؤسسات ومحاكمة رموز النظام محاكمات جدية ، ووضع خطط لتحقيق الحد الأدنى من العدالة الإجتماعية ، إلى صراع حول بضعة مواد دستورية ، أعطت للمجلس العسكري شرعية إجهاض الثورة عبر مجموعة من الإجراءات الأخرى التى لم يكن بحاجة الى استفتاء المواطنين عليها ، مثل إقرار قانون تجريم الاضربات وقانون التصالح مع رجال الأعمال والمستثمرين الفاسدين وغيرها من القرارات الكثيرة المعادية لحقوق وحريات الناس ، بالإضافة إلى تنفيذ عدد من المذابح ضد الثوار في أحداث السفارة وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها، والتي صمتت عنها كثير من القوى التي ادعت يوماً أنها منحازة للثورة .
أما بالنسبة للانتخابات البرلمانية فحدث ولا حرج ، جاءت تلك الانتخابات ببرلمان شغله الشاغل المواقع الإباحية ، والخلع ، ومشروعات قوانين ضد الحق في التظاهر والحريات النقابية ، والأسوأ لم يأت بعد، بل تحول هذا البرلمان إلى أداة في يد القوى السياسية حائزة الأغلبية فيه (الإخوان والسلفيين) لتفجير حالة من حرب طواحين الهواء المستمرة طوال الوقت مثل حربهم الآن ضد حكومة الجنزروي ، التى يريدون إيهام الشارع بأنها سبب كل المشكلات التى تعانى منها مصر ، في حين أن هذه الحكومة مثل الحكومات التي سبقتها ، مِلك ليمين المجلس العسكري ، الذى يجب أن يكون هو ذاته (لا العرائس التى يحركها) هدفاً مباشراً لنضال أي قوى سياسية صادقة في تبنيها لمشروع التغيير في مصر .
وعن الليلة الثالثة من ليالي زفاف المحروسة (مصر) المتمثلة في انتخابات الرئاسة ، فعندما يسمح القائمون على إدارة البلاد بترشح أحمد شفيق ، الذي طُرد من منصبه كرئيس لحكومة ما بعد الثورة بعد قيام الثوار بالإعتصام عدة أسابيع إحتجاجاً على توليه رئاسة مجلس الوزراء ، وعندما يُسمح بترشح عمرو موسى الذي خدم سنوات طويلة في نظام مبارك ، وعندما تُحصّن قرارات اللجنة العليا المشرفة على الإنتخابات من الطعن على قراراتها ، فاعلم أن هذه هى ديمقراطيت (هم) ، هم من وضعوا قواعدها، وهم اللاعبون الأساسيون والاحتياط فيها ، وهم من سيجني ثمارها ولا أحداً سواهم ، أما عن الشعب وإرادته فهذا أخر ما يشغل بال الساسة والعسكر في مصر .
أخيراً وليس آخراً تم تشكيل اللجنة التأسيسية التى سوف تقوم بكتابة دستور مصر الجديدة، وعلى ذات النهج الذى يحتقر الإرادة الجماهيرية ، ويُقدس العمل الفوقي النخبوي ، فهذه اللجنة تتكون من مائة عضو ، تم تشكيلها في البداية من أغلبية التيار الإسلامي المُهيمن على البرلمان ، وبعض الشخصيات العامة من التيارات الاخرى لزوم الديكور ، وبعد أن حكم القضاء ببطلان هذا التشكيل، تقدمت القوى السياسية باقتراحات جديدة للتشكيل لا تقل نخبوية عن التشكيل الذي حكم ببطلانه، في حين لم يُجر إستبيان واحد في الشارع حول الحقوق والحريات التى يطمح إليها الناس، أو فيما يتعلق بتصوراتهم عن الدور المنوط والصلاحيات التى يجب أن يخولها هذا الدستور للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو ما يعكس تصور التيارات السياسية المصرية عن نفسها، بأنها تعبر عن إرادة الجماهير، بإعتبار أن هذه الجماهير منحتهم بعض المقاعد في مجلسي الشعب والشورى ومن ثم يحق لها أن تكتب الدستور بالطريقة التي تراها في صالح الشعب الذي أعطاها تفويضاً مسبقاً تفعل به كما يحلو لصاحب الأبعدية أن يفعل بها .
هذه هي نتائج عملية التحول الديمقراطي في مصر التي تمت بمعزل عن الجماهير ، أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة التي دفعوا ثمنها غالياً، وما يفسر ذلك التردي الذي شاب المراحل المختلفة لهذه العملية، هو أن القائمين عليها والمهللين لها، والساعين نحو الفوز بقضمة من كعكتها ، لا يعترفون أبداً، برغم تأكدهم وتيقنهم من ذلك ،بأنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية، دون تحقيقها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وهذا يعنى أنه لا يمكن لمصر أن تتحول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي بمعنى "حكم الشعب" إلا من خلال آليات الثورة التي تستطيع وحدها فقط تقويض أركان النظام (القديم – الجديد)، وتجفيف منابع نفوذه وقوته، وإعادة بناء المجتمع لصالح الأغلبية المقهورة، وهو مالا يمكن تحقيقه من خلال مؤسسات لا تملك سوى الاستجواب أو طلبات الإحاطة أو سحب الثقة، أو كتابة بعض النصوص القانونية أو الدستورية التي ليس لها أي انعكاس على أرض الواقع .
فالديمقراطية ليست مجموعة من المؤسسات أو النصوص القانونية، بل إن هذه جميعها ما هي إلا أدوات لممارسة الديمقراطية. أما الديمقراطية ذاتها فهي عملية يجب أن تسبق هذه المؤسسات وتلك النصوص، بأن تكون حقوق وحريات الناس مكفولة أولاً، وتكون الإرادة الشعبية هي المصدر الأول والأخير لكل التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا إرادة النخبة الحاكمة أو حلفائها، على أن يكون ذلك مصحوباً بتطهير شامل ، ومحاكمات جادة وعادلة وسوى ذلك هو حرثاً في الماء ، سوف يعيد إنتاج الاستبداد ومؤسساته مرة أخرى كما هو ظاهر الآن .
إن النضال لتحقيق الديمقراطية ليس من أجل أن ينفرد تيار سياسي معين ببعض الامتيازات، أو أن تحصل بعض الشخصيات على مناصب مهمة في الدولة، إنما هو نضال من اجل حقوق ووجبات متساوية للجميع، وإلغاء كل الامتيازات، وهو ما يمكن تحقيقه فقط إذا اخترنا النوع الآخر من الديمقراطية، الذي يسميه البعض " الديمقراطية الشعبية " القائمة على المشاركة المباشرة للناس في صناعة القرارات المتعلقة بحياتهم ومصائرهم ، وليس فقط استدعائهم كل أربع أو خمس سنوات لانتخاب البرلمان أو الرئيس أو مجلس النقابة أو المجلس المحلي، دون أن يكون لهم الحق في عزل أي من هؤلاء ومحاسبته من خلال ذات الإجراءات التي أتت بهم، وأيضاً من خلال كسر أغلال المركزية المؤسسية التي يتسم بها نظام الإدارة في مصر، بحيث يكون لكل محافظة ومدينة ومركز وقرية جمعيتها العمومية، التي تستطيع اتخاذ قرارات معينة في حدود المصالح المشتركة لسكان المحافظة أو القرية، مع الإسهام المباشر فيما يخص المجتمع ككل. لكن علينا أن نعى جيداً أن الطبقة المسيطرة على الثروة والسلطة في مصر لن تسمح بتطبيق هذا النوع من الديمقراطية بإرادتها، وذلك ليس لأن أعضاء هذه الطبقة مجموعة من المرضى النفسيين الذين يعشقون ممارسة الاستبداد والسيطرة على حياة الآخرين، بل لأن هذا النوع من الديمقراطية سوف يجردهم من امتيازاتهم، سوف يكشف أكاذيب ديمقراطية البرلمان والدستور والرئيس على طريقة ما يحدث في مصر الآن، وسوف يبين للناس أن هذه المؤسسات لا تعبر عنهم بقدر تعبيرها عن مصالح السادة، وهو ما يعنى السقوط الحقيقي للنظام القديم، وبداية نظام جديد يؤسس لمجتمع يكون فيه صناعه الحقيقيين هم ملاكه الحقيقيين.
[نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع "ايجيبت اندبندنت".]